-A +A
علي العميم
ربما المعاصرون للفترة التي أعلنت الحكومة فيها عن عزمها لإدخال البث التلفزيوني إلى البلاد والتي بدأ فيها -أيضا- أول بث تلفزيوني، وهي المنتصف الأول من الستينات الميلادية، لم يسمعوا بالسبب الذي يعتقد أبو الحسن الندوي أنه كان وراء إنشاء التلفزيون السعودي، ولكن في ما يظهر من كلامه، أنه كان تفسيرا متداولا لدى بعض مجايليه من المشايخ ورجال الدين الذين كانوا يحرمون التلفزيون.
إن كثيرين منا يفهمون أن نشأة التلفزيون عندنا، أنه كان تطورا طبيعيا وتقليديا لوسائل ووسائط اتصال حديثه سبقته وهذا التفسير هو التفسير الصحيح.
لنترك لعبدالرحمن الشبيلي الرد على التفسير السياسي لنشأة التلفزيون السعودي الذي ردده أبو الحسن الندوي، وظل متشبثا به إلى مماته.
يوضح عبدالرحمن الشبيلي في كتابه (الإعلام في المملكة العربية السعودية)، أن فكرة إنشاء تلفزيون رسمي قد طرحت في عدة صور، منها الاقتراح الذي قدم إلى الملك سعود في: 25/6/1956م، لاستخدام التلفزيون في مجال تعليم المرأة في منطقة جدة التعليمية، قبل افتتاح المدارس الحكومية بخمس سنوات، غير أن عدم توفر الخبرة والإمكانات حال دون ذلك. ومن توضيحه هذا، نعلم أن الفكرة كانت مطروحة قبل أن ينشب الخلاف الناصري السعودي.
ويخبرنا الشبيلي أن عبدالمقصود خوجه -الذي كان قد عمل في المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر، مشرفا على مكتب عبدالله بالخير- ذكر له أن فكرة الاستعانة بأرامكو لإقامة التلفزيون السعودي، قد طرحت وأجريت لها الدراسة ووضعت لها التصاميم، ثم توقفت لأسباب اجتماعية. ويضيف أن غازي القصيبي ذكر له أن الأمير طلال بن عبدالعزيز، وكان وزيرا للمالية آنذاك، قد فكر في حدود عام 1960م، بإيصال بث تلفزيون أرامكو إلى الرياض، وأنه بحث الأمر مع خليفة القصيبي وكيل شركة فيلبس، التي أبدت اهتماما بالفكرة، إلا أنها تعثرت بسبب معارضة جهة دينية.
ويفسر نشأة التلفزيون السعودي -بعد رصده للمحاولات الأولى التي وثقها آنفا- بأن الدولة شعرت أن الوقت قد حان، لإخراج المجتمع السعودي من عزلته الاجتماعية، وأن المفاضلة بين وسائل الترفيه المتاحة: التلفزيون والمسرح والسينما، في ضوء المعطيات الاجتماعية والثقافية السائدة، ترجح الاعتقاد بأن التلفزيون هو الوسيلة الأنسب، التي يمكن تطويعها لاحتياجات المجتمع وظروفه وعاداته وتقاليده وسماته.
ولقد عزز هذا الخيار لصالح التلفزيون -كما يشرح الشبيلي- أن تلفزيون أرامكو كان موجودا منذ عام 1957م، -الذي يبث باللغتين العربية والإنجليزية في المنطقة الشرقية-، وقبله بدأ تلفزيون بعثة التدريب الأمريكية في الظهران -الذي يعد أول محطة تلفزيونية في الشرق الأوسط- يبث باللغة الإنجليزية منذ عام 1955م، ومن ثم كان المجتمع السعودي -في معظمه- مهيأ نفسيا لتقبل ظهور التلفزيون الرسمي، وتواقا لمجيء وسيلة ترفيهية، تنقل المعرفة والأخبار إلى منازلهم، في إطار من المحافظة على القيم والعادات الاجتماعية السائدة.
بعد تولي فيصل بن عبدالعزيز الملك بما يزيد عن نصف سنة قليلا، بعث إليه أبو الحسن الندوي رسالة كرر فيها ما قاله في رسالتيه السابقتين إليه اللتين كان منشأهما التحذير من العواقب والأخطار الأخلاقية والثقافية والسياسية والأمنية التي سيحدثها إنشاء محطتين تلفزيونيتين في جدة والرياض.
تلطف الملك فيصل بن عبد العزيز وبعث له ردا، أفاده فيه أنه أحيط علما بما أبداه. وأكد له -مع شكره لمشاعره الطيبة وتقديره لروحه الإسلامية وغيرته الدينية- أنه لم يسمح ولا يمكن أبدا أن يسمح بما يتعارض مع الدين الحنيف وتعاليمه القويمة.
في جلسة خاصة لأعضاء رابطة العالم الإسلامي مع الملك فيصل بن عبدالعزيز في شهر ربيع الأول سنة 1389هـ (يونيو 1969م) قدم أبو الحسن الندوي، وكان عضوا في المجلس التأسيسي للرابطة، رسالة أعدها لهذه الجلسة، فسلمها بيده إلى الملك، وطلب الملك منه أن يقرأها. ولاعتداد أبي الحسن بها، أسماها -هو يقدم لها- بالكتاب التاريخي.
هوّل أبو الحسن الندوي في هذا الكتاب بأن الشيوعية بدأت تزحف إلى السعودية من الجهات الأربع: الشمال والجنوب والغرب والشرق.
وأومأ إلى أن لها انصارا في الداخل يعملون في الخفاء، ويهيئون العقول والنفوس لقبولها. وقد حدد المجالات التي يعمل فيها هؤلاء، بالتربية والثقافة، والكتابة والتأليف والإعلام والإذاعة! وعزا زوال دولة بني أمية ودولة بني العباس وكل الدول والمماليك الإسلامية إلى العصور الحديثة إلى السماح بالترفيه والتسلية ورفع مستوى الحياة. وأرجع الانقلابات العسكرية في مصر وسورية والعراق والسودان (في البلدين الأخيرين، ذكّر أنه حدث في البلد الأول بالأمس، وكان يشير إلى انقلاب تموز بقيادة البكر، وذكّر في البلد الثاني أنه حدث منذ أيام، وكان يشير إلى انقلاب مايو بقيادة نميري. وهذا التذكير كان لبث الخوف والرعب في السامعين) إلى السبب نفسه.
ولفهم مغزى كلامه السابق، لنتذكّر أن أوجه الترفيه والتسلية في السعودية عنده، هي التلفزيون وبرامجه. ولقد وضع اعتراضه على التلفزيون في هذا الكتاب التاريخي ضمن اعتراض أوسع منه، وهو أنه رأى «في مجال الإعلام والتربية، والمظاهر الاجتماعية، واتجاهات الشعب من اندفاع مشهور إلى الترفيه والتسلية، والأغاني والملاهي، والقصص المثيرة، والبرامج المستوردة الرقيعة»، ما يتناقض مع «الدين الخالص، والإسلام الصريح، وتحكيم الكتاب والسنة، والتمسك بالتعاليم الإسلامية، والقيم الخلقية، والتضامن الإسلامي الذي أصبح جلالة الملك داعيه الأكبر».
أبو الحسن الندوي -كما يحدثنا عن نفسه- كان يزور السعودية والأماكن المقدسة فيها بمناسبات كثيرة مرة أو أكثر من مرة في السنة. وفي إحدى زيارته تلك، وكانت في عام1976م، وقد مكث فيها عدة أشهر، كتب إلى الملك فهد بن عبدالعزيز رسالة وكان وقتذاك ولي العهد والنائب الأول لمجلس الوزراء، أعاد فيه الحديث عن الشيوعية الزاحفة إلى السعودية من جهات عدة، محذرا من خطرها. وأعاد الحديث عما يعتقد أنه الخطر الداخلي، ورأى أنه أعظم من الأول، «البلاد سائرة في طريق الانتحار، تجتاح الشعب اليوم موجتان عارمتان، إحداهما موجة النهامة بالمال واستثماره والزيادة فيه.... والموجة الثانية هي الشغف الزائد بطرق التسلية والمتعة، فالبلاد تسبح اليوم في فيض من الأغاني وأنواع اللهو والتمتع... وهو خطر قد ظهرت طلائعه بتأثير طرق التربية والإعلام، وتدفق الثورة، وتوفر وسائل الترفيه والتسلية توفرا لا يوجد نظيره في بلد إسلامي آخر، وفقدان القدوة الصالحة والنجاعة العلمية في القناعة والتماسك وسمو النظر، وبسبب ضعف الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأثير المدنية الغربية وقيمتها ومثلها من غير نقد وتمحيص، وبتأثير الصحف والمجلات الرقيعة، والروايات المثيرة للغرائز التي تنصب على هذه المملكة من زمن طويل رغم جهود الغيارى من المسؤولية».
نلحظ أن ملحوظاته وتحفظاته على إسلامية الدولة والمجتمع السعوديين من الناحية الثقافية والفكرية والمعاشية هي هي منذ عام 1947م إلى عام 1976م، رغم تحقق الكثير من أوجه مشروع الإسلام الحركي الجديد الذي يدعو وينظر له، تدريجيا منذ مطلع الستينات الميلادية.
في سلسلة مقالات نشرها في جريدة (البلاد) السعودية عام 1950م، تحت عنوان (كيف توجه المعارف في الأقطار الإسلامية) الذي طبع في ما بعد عدة طبعات في أكثر من بلد عربي، ثم توسع فيه في كتاب عنوانه (نحو التربية الإسلامية الحرة في الحكومات والبلاد الإسلامية)، نُفذ ما دعا ونظر له في تلك الأبحاث، بحذافيره في النظام التعليمي في السعودية عن طريق مسؤولين سعوديين تنفيذيين وعن طريق إخوان مسلمين أغلبهم من مصر وسورية.
ومما يستحق أن يقال عن تلك الأبحاث إنها حوت برنامجا تفصيليا عن المنهاج الإسلامي التعليمي الحركي المغلق الذي رسم خطوطا عامة له، أستاذه محمد أسد. وأنها هي الأصل والركيزة والمبتدأ الذي قام عليه منهاج التعليم والتربية والثقافة في حركة الصحوة في العالم العربي، نظريا وعمليا.
ومما ساعده على تحقيق السبق والريادة وأن يكون صاحب أوليات في هذا المجال ومجالات أخرى في الفكر الإسلامي الحركي المحدث، أنه يستند -على خلاف مجايليه المنظرين الإسلاميين الأصوليين العرب الذين كانوا يتبعونه حذو القذوة بالقذوة- إلى تجربة إسلامية أصولية قائمة عند المسلمين في الهند. وقد حكى عن شيء طفيف من هذه التجربة، في سياق تنظيره لما أسماه بالتشبع بروح الدعوة والاختلاط بالشعب.
يقول: «إذا أردنا أن نخلق في طلبتنا هذه الصفات وأن يخرجوا من الخطر على دينهم، ونأمن عليهم الاندماج في غيرهم والوقوف في المعسكر المخالف، فينبغي لنا أن نجعلهم دعاة، فإذا أردنا أن نجعلهم متدينين، فينبغي أن نجعلهم دعاة إلى الدين وقد جربنا ذلك في الهند فنجحنا نجاحا باهرا، فطلبة كليات الحكومة والكليات المختلطة (يقصد هنا طلبة الكليات العلمانية في بلاده) لما خرجوا في القرى والضواحي يدعون إلى الله، ويلقنون المسلمين مبادئ الإسلام، ويوقظون فيهم روح الدين، رأينا الحماسة الدينية فيهم تزداد اشتعالا كل يوم وروحهم تقوى، وهي في تقدم مطرد في الديانة والصلاح حتى فاقوا في حماستهم الدينية ونشاطهم وإيمانهم بالدين بل في الجرأة الدينية على أبناء المدارس الدينية العربية التي لا يختلط طلبتها بغير المسلمين ولا يقرأون العلوم العصرية. والسر في ذلك هو الدعوة التي تجعل من الرجل غير الرجل ومن القلب غير القلب».
الصفات التي يدعو القائمين على مديرية المعارف في السعودية إلى خلقها في الطلبة، والمستمدة من تجربته الإسلامية الهندية، قائمة على منطق حدي، ثنائي القطب، مفاده أن «أمة أو جماعة ليس فيها روح الدعوة والتقدم والهجوم، لا تحافظ على وجودها وعلى مبدأ عقيدتها، وأن موقف المدافع هو موقف الضعيف المعرض للخطر، وكل من لا يكون داعيا يكون هدفا لدعوة أخرى. وقد ثبت بالتجربة أن خير وسيلة للإيمان بالمبدأ والثبات عليه ومتانة العقيدة والاستماتة في سبيلها هي الدعوة إليها.....».

* كاتب سعودي